المحل ( المال المقرض ) :
للمال المقرض شروط اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر على ما يلي : الشرط الأول : أن يكون من المثليات :
14 - والمثليات : هي الأموال التي لا تتفاوت آحادها تفاوتا تختلف به قيمتها , كالنقود وسائر المكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة .
قال الحنفية : إنما يصح قرض المثليات وحدها , أما القيميات التي تتفاوت آحادها تفاوتا تختلف به قيمتها , كالحيوان والعقار ونحو ذلك , فلا يصح إقراضها .
قال الكاساني : لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين , ولا إلى إيجاب رد القيمة ; لأنه يؤدي إلى المنازعة لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقومين , فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل , فيختص جوازه بما له مثل , وقال ابن عابدين : لا يصح القرض في غير المثلي ; لأن القرض إعارة ابتداء حتى تصح بلفظها , معاوضة انتهاء لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه , فيستلزم إيجاب المثل في الذمة , وهذا لا يتأتى في غير المثلي .
وذهب المالكية والشافعية في الأصح إلى جواز قرض المثليات , غير أنهم وسعوا دائرة ما يصح إقراضه , فقالوا : يصح إقراض كل ما يجوز السلم فيه - حيوانا كان أو غيره - وهو كل ما يملك بالبيع ويضبط بالوصف ولو كان من القيميات , وذلك لصحة ثبوته في الذمة , ولما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض بكرا , وقيس عليه غيره , أما ما لا يجوز السلم فيه , وهو ما لا يضبط بالوصف - كالجواهر ونحوها - فلا يصح إقراضه .
ثم استثنى الشافعية من عدم جواز قرض ما لا يجوز السلم فيه جواز قرض الخبز وزنا , للحاجة والمسامحة .
والمعتمد في المذهب عند الحنابلة جواز قرض كل عين يجوز بيعها , سواء أكانت مثلية أم قيمية , وسواء أكانت مما يضبط بالصفة أم لا . الشرط الثاني : أن يكون عينا :
15 - ذهب الحنفية والحنابلة على المعتمد في المذهب إلى أنه لا يصح إقراض المنافع , وإن كان هناك اختلاف بين المذهبين في مستند المنع ومنشئه .
فأساس منع إقراض المنافع عند الحنفية : أن القرض إنما يرد على دفع مال مثلي لآخر ليرد مثله , والمنافع لا تعتبر أموالا في مذهبهم ; لأن المال عندهم ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن ادخاره لوقت الحاجة , والمنافع غير قابلة للإحراز والادخار , إذ هي أعراض تحدث شيئا فشيئا وآنا فآنا , وتنتهي بانتهاء وقتها , وما يحدث منها غير الذي ينتهي , ومن أجل ذلك لم يصح جعل المنافع محلا لعقد القرض .
وأما مستند منع إقراض المنافع عند الحنابلة , فهو أنه غير معهود , أي في العرف وعادة الناس .
وقال ابن تيمية : ويجوز قرض المنافع , مثل أن يحصد معه يوما , ويحصد معه الآخر يوما , أو يسكنه دارا ليسكنه الآخر بدلها , لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال , حتى يجب على المشهور في الأخرى القيمة , ويتوجه في المتقوم أنه يجوز رد المثل بتراضيهما .
أما الشافعية والمالكية فلم يشترطوا في باب القرض كون محل القرض عينا , ولكنهم أقاموا ضابطا لما يصح إقراضه , وهو أن كل ما جاز السلم فيه صح إقراضه , وفي باب السلم نصوا على جواز السلم في المنافع كما هو الشأن في الأعيان , وعلى ذلك يصح إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف بمقتضى قواعد مذهبهم . الشرط الثالث : أن يكون معلوما :
16 - لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط معلومية محل القرض لصحة العقد , وذلك ليتمكن المقترض من رد البدل المماثل للمقرض , وهذه المعلومية تتناول أمرين : معرفة القدر , ومعرفة الوصف , جاء في " أسنى المطالب " : يشترط لصحة الإقراض العلم بالقدر والصفة ليتأتى أداؤه , فلو أقرضه كفا من دراهم لم يصح , ولو أقرضه على أن يستبان مقداره ويرد مثله صح .
وقد أوضح ابن قدامة في المغني علة هذا الاشتراط , فقال : " وإذا اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن لم يجز ; لأن القرض فيها يوجب رد المثل , فإذا لم يعرف المثل لم يمكن القضاء , وكذلك لو اقترض مكيلا أو موزونا جزافا لم يجز لذلك , ولو قدره بمكيال بعينه أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز ; لأنه لا يأمن تلف ذلك , فيتعذر رد المثل , فأشبه السلم في مثل ذلك " .
وقد استثنى الشافعية من قولهم باشتراط كون محل القرض معلوم القدر ما سموه بالقرض الحكمي , كقوله : " عمر داري " ونحوه , فلم يوجبوا معرفته لصحة القرض .