حجة القائلين بالتفريق بين التأمين التجاري والتعاوني
1- أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه ، وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع من التأمين بالتعاوني . فهو تعاون بين المشتركين فيه على الصدوع وجبر المصائب وما زاد عن ذلك رجع إليهم وما ظهر من عجز تعيّن عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه .
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحاً لشركة التأمين التجارية ، وفي حال وجود عجزٍ في هذا الصندوق فيعتبر خسارةً على شركة التأمين التجارية الالتزامُ بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطياتها حيث تعتبر هذه الخسارة ديناً على الشركة.
ويجاب عن هذا: أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غيرُ صحيحة فالفائض ُ في القسمين ربحٌ والعجز في صندوق كل منهما خسارة .
وبهذا يتضح أن التأمينَ التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريقَ بينهما في الحكم إباحةً وتحريماً ، فكلا القسمين يشتمل على خمسة شروط هي : المؤمن والمؤمن له ومحل التأمين والقسط التأميني والتعويض في حال الاقتضاء . وأن الإلزامَ والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين – المؤمَّن والمؤمن له – يكون في العقد بيانُ أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
2- أن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة ، وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك حيث إنه ضربٌ من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى وأن القسط التأميني يدفعه المؤمَّنُ له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويضَ في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواءٌ وُجِد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه ، وإذا وجد في الصندوق فائض تعيّن إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري فما في الصندوق فائض يعتبر ربحاً لشركة التأمين التجارية فهي شركة ربحية قائمةٌ على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون . كما قيل بان التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعاً وعلى المسامحة وانتفاءِ عنصر المعاوضة.
مناقشة هذا القول:
هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري تحتاج مناقشته إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده:
الوقفة الأولى:فيما يتعلق بدعوى التعاون المحمود في التأمين التعاوني وانتفائه عن التأمين التجاري.
القول بأن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصودٌ عند الدخول من قبل المشتركين قول غير صحيح فليس لواحد من المشتركين فيه قصدُ تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إن الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم ، ولكن هذا التعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري ، ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها . فرغيف الخبر مثلاً لا يصل إلى يد آكله حتى يمر بمجموعة من مراحل إعداده- زراعة وحصاداً وتنقية وطحنا وعجناً وخبراً – دون أن يكون لعمال كل مرحة قصدٌ في التعاون مع الآخرين على إعداد هذا الرغيف . فهذا نوع من التعاون فهل هو تعاون مقصود أم هو تعاون تم بحكم بواعثه ونتائجه والحاجة إليه . وهذا يعني أن التأمين بقسميه تم بطريق تعاوني غير مقصود كالحكم في تأمين الحاجات البشرية بين مجموعة من الأفراد على سبيل المراحل التنفيذية من غير قصد تعاون في تحصيلها .
ولا أظن أحداً يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول : بان المشترك في التأمين التعاوني يقصد التعاون على البر والتقوى محتسباً الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون . لا شك أن القول بذلك دعوى موغلةٌ في الوهم وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحسُّ والعقل . بهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قولٌ لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري فبطل القول بذلك كفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني .
الوقفة الثانية:مع القول بأن القسط التأميني في التأمين التعاوني تم تقديمه من قبل المؤمن له على سبيل التبرع.
هذا القول قرين لدعوى التعاون المقصود والذي تبين بطلانُه . فمن خصائص التبرع أن المتبرعَ له حقُّ العدول عن التبرع بكامل ما يتبرع به أو بجزئه فما على المحسنين من سبيل ،كما أن له حقَّ الامتناع عن الاستمرار بما وعد به من تبرع بالأقساط أو بالمشاركة في سد عجز الصندوق . فهل يقبل من المشترك في التأمين التعاوني هذا الحكم على اعتبار أن مشاركته كانت على سبيل التبرع ؟ أم أن امتناعه عن الاستمرار في دفع الأقساط أو الامتناع عن المشاركة في تغطية عجز الصندوق يسقط حقَّه في التعويض وفي المطالبة بما مضى منه دفعه ويعطي القائمين على إدارة التأمين التعاوني حقَّ فسخ العقد معه؟
إن الإجابة على هذا التساؤل من باحثٍ عن الحقيقة يبطل القول بدعوى التبرع ويلزم بالقول بأن المؤمن والمؤمن له تعاقدُ معاوضةٍ توجب الإلزام كالحال بالنسبة للتأمين التجاري ؛ وأن القول بالتبرع بدون أن تثبت له أحكامه ضربٌ من الوهم والخيال.
الوقفة الثالثة:
مع القول بان توزيع الفائض في الصندوق بعد دفع المستحقات عليه يخرج التأمينَ التعاوني من أن يكون طريقاً من طرق المتاجرة وطلب الربح.
وجه الوقوف مع هذا القول من جانبين :
أحدهما : أن طلب الربح والأخذ بأحوال وأنواع التجارة ليس أمراً محرماً أو مكروهاً حتى يُعَدَّ ذلك من مسوغات القول بتحريم التأمين التجاري لكونه يستهدف ذلك . والقول بإباحة التأمين التعاوني لانتفاء الربح فالضربُ في الأسواق والسعي في طلب الرزق والربح أمر مشروع.
الجانب الآخر: يتلخص في أن التأمين التعاوني في واقعة شركةُ تأمين مكونة من مشتركين أعضاءً فيها . فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين ، صفة المؤمن باعتباره باشتراكه فيها عضواً له حقُّ في الفائض بقدر نسبة اشتراكه وعليه الالتزامُ والمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام بالتعويضات بنسبة مشاركته . وله صفة المؤمن له باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة ملتزماً بدفع قسط التأمين وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب عقده مع الشركة . وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري فكلاها شركة تأمين تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره ومن حيث الإلزامُ والصفة القانونية لكلا القسمين . فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام والحقوق والواجبات وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية فهي شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات . ومعلوم أن لكل شركة من الشركتين إدارةُ مسؤولةً عن الجانب التنفيذي لأعمال كل شركة سواء أكانت هذه الإدارة من أهل الشركة نفسها أم كانت إدارة أجنبية مستأجرة للإدارة.,كما أن شركة التأمين التجارية ملزمةٌ بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب سواء أكانت الشركة رابحة أم خاسرة فكذلك الأمر بالنسبة لشركات التأمين التعاونية فهي ملزمة كذلك بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب وإذا كان صندوق الشركة فيه عجزٌ يحول دون كامل التزاماته أو بعضها تعين الرجوعُ إلى المشتركين فيها لسد عجز الصندوق ، حتى يكون قادراً على الوفاء بتغطية كامل التزاماته حيث إنهم أصحاب الشركة وملاكها فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فهيا.
وقد جاء النص على ذلك في الأنظمة الأساسية لشركات التأمين التعاونية وصدرت قراراتُ وفتاوى الهيئات الشرعية الرقابية بذلك ، كما صدرت قرارات مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات العلمية بإلزام المشتركين في شركات التأمين التعاونية بسد عجز صناديقها . وهذا مما تزول به الحواجزُ المفتعلة بين شركات التأمين التجارية وشركات التأمين التعاونية.
الوقفة الرابعة: مع القول بان التأمين التجاري يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة وان التأمين التعاوني لا يشتمل على ذلك وإنما هو ضرب من ضروب التعاون والتسامح والتبرعات.